"نهاية راجحة"-عبدالرزاق المصباحي (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

"نهاية راجحة"

  عبدالرزاق المصباحي    

 كنت متعبا ...متعبا جدا ، لذا قصدت أقرب مقهى ،أخذت كرسيا ومددت أطرافي فوقه في انتشاء،لم يكن ارتياد المقهى من عاداتي، كنت مضطرا... مضطرا فقط، اضطراري إلى ارتشاف تلك القهوة السوداء الحقيرة التي طلبت _على عجل _من النادل إحضارها بعد أن حجز نور الشمس مباشرة بعد جلوسي إلى أن أطلب شيئا،فعلتُ فحررتُ مسائي توا من قبضة ملامحه الصارمة المتجهمة وحررت ضوء الشمس أيضا.
     كنت قد قضيت اليوم جله أتجول على غير هدى، أتنقل بين الأمكنة من شارع لشارع ومن زقاق لآخر كفيلسوف إغريقي يبحث عن الحقيقة في وجوه الناس،كنت_دون كلل _أتفرس في الوجوه الكالحة والبشرات البضة التي تمرق أمامي :  كم قناعا تضمره تلك الوجوه ؟  هجستُ، لأني لطالما اعتقدت أننا نملك وجوها جمة،نلبس عند كل لقاء الوجه الذي نلفاه مناسبا،نواجه الغير بها في وثوقية شديدة،ظانين أنها  أقنعة لا يسقطها امتحان .
     كانت أطرافي لا تزال تتمدد على الكرسي في المقهى المقابل لشارع " الرباط "،وقد استرجعتْ بعض نشاطها ،حركتُ قداماي ثم ضغطتُ على الأرض بهما مختبرا قدرتهما على حملي ، إذا بصراخ شديد ينطلق من الشارع المكتظ بالمارة :
  _ سُرقت، سرقوا محفظتي.كانت السيدة تزيد في كل مرة من حدة صراخها؛ بينما كان بعض من تحلق حولها يواسي و بعض آخر يشيد بمهارة السارق مؤكدا أن ما فعله عمله الذي يسترزق منه، وينبه السيدة إلى ضرورة الانتباه في المرة القادمة."ما أغرب هؤلاء وما أقسى على مكلوم من نصيحة أمثالهم" قال أحد المارة وانسحب؛ أما أنا فتحسستُ هاتفي في جيب السترة ،مذكرتي وكتاب " اللاطمأنينة " الذي اقتنيته صباحا ،وانطلقت عيناي ترنو إلى اللاشيء.... فقط تخترق  الفراغ.
   عجوز.... امرأة عجوز تتقدم بتؤدة نحو المقهى وهي تتوكأ على عصا، تناولت بدورها الكرسي على مهل،وضعت كيسها المائل لونه إلى سواد وجلست قبالتي ،أحضرتْ لها النادلة كأس الشاي والخبز، وشرعت في تناولهما ببطء شديد، كانت حركات يديها ثقيلة ولا تمتدان إلى فيها إلا بعد لأي، لكن ثمة غموض يجذبك لتأمل عينيها الزرقاوين ووجها الصارم الذي يوقف الزمن ويعود به إلى ماض _لا شك موجود_ أجهله ...فضولي كان دائما أقوى، لذا وضعت يدي في جيب السترة،أخرجت القطع النقدية  تقدمت نحوها،مددت يدي التي تضم تلك القطع إليها،بيد أنها استمرت _متلمظة _في قضم قطعة الخبز واحتساء الشاي.
_ "الشريفة خذي هذه البركة " قلت لها، لكنها تابعت صمتها، وزادت أن صعرت خدها لي.تعمدت مد يدي في اتجاه وجهها حتى تبصرني،فأمسكت على حين غرة بها بكلتا يديها وأطلقتها بغثة،وصفعتني بابتسامة لغز،سقطت القطع النقدية ، انحنيت لجمعها ثم توجهت داخل المقهى،وحين عدت إلى مكاني كانت العجوز قد اختفت .أسقط في يدي ...  وجعلت ألتفت يمينا وشمالا، لكني لم أجد لها أثرا.
_أ لم تر عجوزا كانت هنا قبل لحظة؟. سألت أحد رواد المقهى ، فأشار أنْ يمينا،... غادرت المقهى،وجريت مندفعا إلى آخر الشارع،لكن لم أجد لها أثرا . عدت خائبا .جمعت أغراضي التي تركت على الطاولة بالمقهى،استقللت (الطاكسي ) وأقفلت راجعا إلى المنزل،ألقيت على "حنان" تحية سريعة،ثم ولجت المكتب،أخذت ورقة وقلما واستسلمت للقصة:
بداية محتملة.
  العجوز لا تزال تعبر كل شوارع المدينة، تنتقل من مطعم لمطعم،ومن مقهى لآخر،وحين تدركها دجنة الليل يلتحفها العراء في دعة.
 نهاية راجحة:
  يسقط الجسد النحيل كجلمود صخر وتتناثر الملابس من الكيس، وحدها الملامح الصارمة والعيون الزرقاء ترمي المتحلقين بنظرة شزراء وبابتسامة لغز.



 
  عبدالرزاق المصباحي (المغرب) (2009-09-11)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia